الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{هُدْنا} معناه تبنا، يقال: هَادَ يهود إذا رجع وتاب فهو مَضموم الهاء في هذه الآية باتفاق القراءات المتواترة والمعنى تبنا مما عسى أن نكون ألممنا به من ذنب وتقصير، وهذا إخبار عن نفسه، وعن المختارين من قومه، بما يعلم من صدق سرائرهم.جملة: {قال} إلخ جوابٌ لكلام موسى عليه السلام، فلذلك فصلت لوقوعها على طريقة المحاورة، كما تقدم غير مرة، وكلام موسى، وإن كان طلبا، وهو لا يستدعي جوابًا، فإن جواب الطالب عناية به وفضْل.والمراد بالعذاب هنا عذاب الدنيا، لأن الكلام جواب لقول موسى: {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} والإهلاك عذاب، فبيّن اللَّهُ له أن عذاب الدنيا يصيب الله به من يشاء من عباده، وقد اجمل الله سبب المشيئة وهو أعلم به، وموسى يعلمه إجمالًا، فالكلام يتضمن طمأنة موسى من أن يناله العذاب هو والبزاء من قومه، لأن الله أعظم من أن يعاملهم معاملةَ المجرمين.والمعنى إني قادر على تخصيص العذاب بمن عصوا وتنجية من لم يشارك في العصيان، وجاء الكلام على طريقة مجملة شأن كلام مَن لا يُسأل عما يعقل.وقوله: {ورحمتي وسعت كل شيء} مقابل قول موسى: {فاغفر لنا وارحمنا}.وهو وعد تعريض بحصول الرحمة المسؤولة له ولمن معه من المختارين، لأنها لما وسعت كل شيء فهم أرجى الناس بها، وأن العاصين هم أيضًا مغمورون بالرحمة، فمنها رحمة الإمهال والرزق، ولكن رحمة الله عباده ذات مراتب متفاوتة.وقوله: {عذابي أصيب به من اشاء} إلى قوله: {كل شيء} جواب إجمالي، هو تمهيد للجواب التفصيلي في قوله: {فسأكتبها}.والتفريع في قوله: {فسأكتبها} تفريع على سعة الرحمة، لأنها لما وسعت كل شيء كان منها ما يكتب أي يعطى في المستقبل للذين أجريت عليهم الصفات ويتضمن ذلك وعدًا لموسى ولصلحاء قومه لتحقق تلك الصفات فيهم، وهو وعد ناظر إلى قول موسى {إنا هدنا إليك} والضمير المنصوب في {أكْتُبها} عائدِ إلى {رحمتي} فهو ضمير جنس، وهو مساو للمعرف بلام الجنس، أي اكتب فَردا من هذا الجنس لأصحاب هذه الصفات، وليس المراد أنه يكتب جميع الرحمة لهؤلاء لأن هذا غير معروف في الاستعمال في الإخبار عن الأجناس، لكن يُعلم من السياق أن هذا النوع من الرحمة نوع عظيم بقرينة الثناء على متعلِقها بصفات توذن باستحقاقها، وبقرينة السكوت عن غيره، فيعلم أن لهذا المتعلِق رحمة خاصة عظيمة وأن غيره داخل في بعض مراتب عموم الرحمة المعلومة من قوله: {وَسِعت كل شيء} وقد أفصح عن هذا المعنى الحصر في قوله في آخر الآية: {أولئك هم المفلحون}.وتقدم معنى {أكتبها} قريبًا.وقد تقدم معنى: {وسعت كل شيء} في قوله تعالى: {وسع ربنا كل شيء علما} في هذه السورة (89).والمعنى: أن الرحمة التي سألها موسى له ولقومه وعدَ اللَّهُ بإعطائِها لمن كان منهم متصفًا بأنه من المتقين والمؤتين الزكاة، ولمن كان من المؤمنين بآيات الله، والآياتُ تصدق: بدلاِئل صدق الرسل، وبكلمات الله التي شرع بها للناس رَشادهم وهديهم، ولاسيما القرآن لأن كل مقدار ثلاث آيات منه هو آية لأنهُ معجز فدال على صدق الرسول، وهو المقصود هنا، وهم الذين يتبعون الرسول الأمي إذا جاءهم، أي يطيعونه فيما يأمرهم، ولما جعلت هذه الأشياء بسبب تلك الرحمة علم أن التحصيل على بعضها يحصّل بعض تلك الرحمة بما يناسبه، بشرط الإيمان، كما علم من آيات أخرى خاطب الله بها موسى كقوله آنفًا {والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا} [الأعراف: 153] فتشمل هذه الرحمة من اتقى وآمن وآتى الزكاة من بني إسرائيل قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فإن أتباعهم إياه متعذر الحصول قبل بعثته، ولكن يجب أن يكونوا عازمين على اتباعه عند مجيئه إن كانوا عالمين بذلك كما قال تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيئين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمننّ به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون} [آل عمران: 81، 82].وتشمل الرحمة أيضًا الذين يؤمنون بآيات الله، والمعنى بها الآيات التي ستجيء في المستقبل، لأن آيات موسى قد استقر الإيمان بها يومئذ، وهذا موجب إعادة اسم الموصول في ذكر أصحاب هذه الصلة، للإشارة إلى أنهم طائفة أخرى، وهم من يكون عند بعثة محمد عليه الصلاة والسلام، ولذلك أبدل منهم قوله: {الذين يتبعون الرسولَ} إلخ. اهـ.
أو تَابَ من قوله: [الرجز] ومن كلام بعضهم: [المجتث] وقرأ زيد بنُ علي، وأبو وجزة {هِدْنَا} بكسر الهاء مِنْ هَادَ يَهِيدُ أي: حَرَّكَ.أجاز الزمخشريُّ في {هُدْنا}، و{هِدْنا}- بالضمِّ والكسر- أن يكون الفعلُ مبنيًا للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى: مِلْتَا، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا، وفيه نظر؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس.فيقال في عقتُ من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ: عِقْت بالكَسْرِ فقط، أو الإشمام، وفي: بعت يا عبد إذا قصد أن غيره باعه بُعْت بالضم فقط أو الإشمام، ولكن سيبويه جوَّز في قيل وبيع ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز.وهِيَ ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ: إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ.وقيل يعندُ على مسألة الإرادة من قوله: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] أي: إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ.قوله: {عذابي أُصِيبُ بِهِ} مبتدأ وخبر.والعامَّةُ على {مَنْ أشَاءُ} بالشِّينِ المعجمةِ.وقرأ زيدُ بن علي، وطاووس، وعمرو بن فائد {أسَاءُ} بالمهملة.قال الدَّانِي: لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن، ولا عن طاووس، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة، وقرأها سفيان بْنُ عيينة، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرئ فصاح به وأسمعه.فقال سفيانُ: لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع.يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك.ومعنى الآية: إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23].قال عطيَّةُ العوفي: {وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ} ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن، لسعة رحمةِ الله للمؤمن، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه. اهـ.
|